طيفُ عارف الريس يُظلل مجموعته «متاهات» وسط بيروت

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!


لم يرغب الفنان التشكيلي الراحل عارف الريس يوماً في تفسير لوحاته وشرح موضوعاتها لأي إنسان، بل كان يترك لناظرها حرية التحليق بأفكاره. وفي معرض استعادي يستضيفه غاليري «صفير – زملر» وسط بيروت، تصطف مجموعة لوحاته «متاهات» على حيطانه من دون أسماء. وهي رسومات تعود إلى عام 1999. وبالتعاون مع ابنته هالا نُظّم هذا المعرض تحيةً لفنان لبناني حفرت ريشته في الذاكرة.

مشهدية متناقضة تحضر أمام زائر المعرض، تتألف من فضاء أبيض تتناثر عليه لوحات بألوان نافرة. أشكال هندسية وظلال بشرية وزخرفات أفريقية، تؤلف «متاهات» عارف الريس، فيأخذ الزائر فيها في رحلة فوق السحاب، حيث يزدحم الصمت. يشعر الناظر تلقائياً بعزلة عاشها الفنان في أثناء رسمه هذه اللوحات. نفّذها حين كان يُمضي أوقاتاً في رعاية والده المريض.

معرض «متاهات» في غاليري «زملر – صفير» وسط بيروت (غاليري زملر – صفير)

من اللوحات اللافتة بروفايل وجه رجل يشبه منحوتة رومانية. وإذا ما دقّقت النظر فيها اكتشفت الشبه الكبير بينها وبين صاحبها (عارف الريس)، كأنها رسم رجعيٌّ ذاتيٌّ له. مرسومة على خلفية مبدّدة بالبرتقالي والأصفر يتسلق رأس الرجل أشخاصاً يتعلقون بشعره، وبينهم من يلمس وجهه البرتقالي عن قرب.

وفي لوحة أخرى يهيمن عليها الطلاء الورديّ تكتشف دور المرأة البالغ في حياة عارف الريس، يرسمها منتصبةً بأنوثة بالغة مرةً، ومنحنية الظهر منتظرة قدرها في أخرى، وحولها أشكال هندسية تُبحر معها في خيالك إلى فن الخط العربي تارةً، وإلى سفينة القادس التي استُخدمت في المتوسط خلال الحرب والقرصنة في الألفية الأولى قبل الميلاد. ومن هناك تنتقل في لوحة أخرى ودائماً غير معنونة إلى مجاهل أفريقيا، هذه البلاد التي عشقها وأُغرم بالسنغال حيث عاش لفترة. وعلى قماشات واسعة تمرّ ريشته بألوان زاهية ومكثفة وحادة مرات، وتتمدد لتشعر بأنها تطوف على جوانب إطار اللوحة.

ظلال بشرية كثيرة تطالعك في لوحات الريس، ضمن مجموعته «متاهات»، فتتوه بين رؤوسها الدائرية المنقورة بعين جاحظة كبيرة. جميعها منشغلة بتدبير أمورها، بائسة ومستسلمة تقابلها أخرى تعانق الفراغ. ويحضر طيف الأولاد على ضفافها مسلحين بابتسامة أو بنظرة قلقة على مستقبل رمادي.

مجموعة «متاهات» عُرضت لأول مرة في قصر «اليونيسكو» في بيروت عام 1999، لتغيب بعدها عن الأنظار وتعود من جديد وسط بيروت.

يغلب أسلوب النحت على هذه المجموعة التي اتبع فيها الفنان الراحل الدقة في تفاصيلها. تبدو للوهلة الأولى بسيطة وعفوية، ولكن عندما تغوص فيها تأخذك إلى مجالات العلوم والطبيعة والفلسفة والتحليلات النفسية.

لوحات مركبة وتجريدية يتضمنها المعرض (غاليري زملر – صفير)

وأنت تتجول في المعرض تستوقفك لوحة تُظهر ثقل هموم الإنسان في ظل عالم حديث تمخضت فيه التكنولوجيا لتولِّد أسلحة فتاكة. يتراءى لناظرها أنها تصور رجلاً ضخماً يدير ظهره، ويحمل عليه كل ما يُخيَّل إليك من غدر الزمن، رسمها الريس منمنمة ولكنها فتاكة. صواريخ حرب وفؤوس وراجمات، ومحارب يستريح على أرض ابتسامتها صفراء. حدد الريس اللوحة بمربعات متشابكة لينفلش عليها جسم هذا المخلوق الصلب بالأصفر والأخضر. فالفنان ركن إلى الـ«أكليريك» اللزج ليوفر الليونة المطلوبة لريشة يمسك بها. وبالأحمر علّم وحدّد بعض الأشكال التي تحتويها منذرةً بالخطر. وتتوزع عليها نظرات عيون تحدق بما يجري حولها من دون جدوى.

فن الميكسد ميديا يحضر في لوحات «متاهات» إلى جانب أخرى اعتمد فيها التجريدي والسوريالي. فيفلت معها المتفرج من صراعات أزمنة نقلها الريس بشكل وبآخر في لوحات أخرى. ومن بين لوحاته تطالعنا واحدة تلفتك زخرفتها ودوائرها المتداخلة، يغلب عليها الأحمر والأزرق القاتمين تطلّ برأسها في أعلاها حمامة السلام البيضاء. ولكنها بأداء يخرج عن المألوف صورها الفنان الراحل تنفخ دخان سيجارة من منقارها.

إحدى لوحات الفنان التي تطالعك في المعرض (غاليري زملر – صفير)

وُلد في مدينة عاليه. وبدأ الرسم في الحادية عشرة من عمره. وفي عام 1948 أقام أول معرض رسم له في بيروت. عاش في أفريقيا لسنوات عديدة وتنقّل بين السنغال وباريس.كما حصل على منحة دراسية عام 1959 وسافر إلى إيطاليا وأمضى 4 سنوات بين فلورنسا وروما.

في عام 1967 عاد إلى لبنان متأثراً بالأحداث التي شهدها العالم العربي، فكان أحد المؤسسين لمعهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية. دُعي إلى الجزائر حيث أنتج مجموعة من الرسومات التي تصور الحرب الأهلية في لبنان، نُشرت في كتاب يحمل عنوان «الطريق إلى السلام». في عام 1978 شارك في «المعرض الفني الدولي للتضامن مع فلسطين». وفي ذلك الوقت بدأ العمل في المملكة العربية السعودية فأنجز 13 منحوتة بين جدة وتبوك والرياض، ماكثاً في مدينة جدة حتى عام 1987 أنتج عدداً من المنحوتات. وكان أهمها منحوتة من الألمنيوم بطول 27 متراً تتوسط ميدان فلسطين في جدة. في عام 1992 عاد إلى لبنان حيث استقر في بلدته الأم عاليه حتى وفاته في عام 2005.

‫0 تعليق